الحمد لله العلي الغفار، الواحد القهار، مكور النهار على الليل، والليل على النهار، أحمده وأشكره وأستغفره، وأنيب إليه وأتوب إليه من جميع الأوزار، وأشهد أن لا إله إلا هو شهادة تبلغني وإياكم تلك الدار، دار النعيم التي أعدت للأبرار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خيرة البشر، صلى الله عليه وسلم ما تألقت عين لنظر، وما اتصلت أذن بخبر، وما هتف طير على شجر، وما انهمل مطر، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بَعْد:
! إن من أعظم مقاصد الرسول عليه الصلاة والسلام، بل إن من أجل أهداف الإسلام أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد بين صفوفنا، وأن يرأب الصدع بيننا، فإذا لم يتم ذلك؛ فلنعلم جميعاً أننا تلبسنا بالإسلام، وما اهتدينا إلى طريقه، وما تشرفنا بحمله، يقول الله تعالى ممتناً على الأمة العربية التي كانت ضائعة ضالة متفرقة، متحاسدة متحاقدة متقاطعة: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
فسبحان من ألف هذه القلوب ووحد بينها، ورأب صدعها؛ فاستقلت بحمل الرسالة إلى البشرية.. والله يأمرنا بالاعتصام، وينهانا عن الفرقة وموجباتها من بغضاءٍ وحسد وغيبة، ومن هتك الأعراض، ومن تشريح وتجريح، يقول الله سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].......
اقتران الإيمان بالمحبة بين المؤمنين
اعلم أيها المسلم أنك لن تنال رضوان الله ولا عفوه ولا رحمته حتى تود لأخيك المسلم ما توده لنفسك، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قال: أفشوا السلام بينكم }.
وإفشاء السلام معناه: بسمة الوجه وإطلاقه وبشاشته، وحرارة العناق.. ويوم أن توجد البغضاء بين الأسر والمجتمعات وطلبة العلم، يحل الغضب والمحق واللعنة والعياذ بالله، يقول عليه الصلاة والسلام: {إياكم وفساد ذات البين، فإن فساد ذات البين الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين }.
سلامة الصدر
إذا أردت أن تنام وطرحت نفسك على الفراش، وأوكلت نفسك باريها، فتذكر هل تضمر للمسلمين غشاً، هل تحمل لهم حقداً أو ضغينة، إن كنت تحمل ذلك فصحح إيمانك، وجدد إسلامك، فإن في قلبك غشاً وحقداً على عباد الله.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه في المسجد وهو مع الشبيبة الطاهرة التي حملت لا إله إلا الله إلى البشرية، فبينما هو يحدثهم قطع الحديث فجأة، وقال: {يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة }.
إذا بهذا الرجل تتقاطر لحيته بماء الطهور والوضوء البارد الذي يشبه برد قلبه ويقينه، وحذاؤه في يده اليسرى، فيدخل ويصلي ركعتين ويجلس، وفي اليوم الثاني يعيد صلى الله عليه وسلم هذا الكلام ويدخل هذا الرجل، وفي اليوم الثالث يكرر الكلام ويدخل ذاك الرجل.. عجيب.. بم دخل الجنة؟! أبصيام وصلاة؟! أبكثرة قراءة ومحاضرات؟! أبصدقة وبذل وعطاء؟!
لا. الأمر أعظم من ذلك، إن من الناس من يدعو ولكنه حقود، ومن الناس من يتصدق ولكنه حسود، ومن الناس من يبذل ويضحي ولكنه يبغض عباد الله، ويرصد لهم.
ولما سمع عبد الله بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، حرص على معرفة سر ذلك، فلازم هذا الرجل، وأمسى عنده ثلاث ليال، انتظر ليقوم يصلي الليل فلم يقم ليصلي الليل، نظر للصدقة فليس هناك صدقة كثيرة، نظر إلى صلاته في النهار فوجده يصلي الفرائض فحسب، فودعه وقال: يا أيها الرجل! ما أمسيت عندك ثلاثاً؛ إلا لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا أنك من أهل الجنة ثلاث مرات، فأسألك بالله ما هو عملك الذي بلغك دخول الجنة؟ فما رأيت عندك قيام ليل ولا كثرة صلاة ولا صدقة! قال: أما وقد سألتني فوالله الذي لا إله إلا هو إنني لا أبيت وفي قلبي لأحد من المسلمين غش ولا حسد كائناً من كان، لا أجد على المسلمين غلاً ولا حقداً.. ما أبرد قلبه!
ما ذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
اليهودية والنصرانية ، والصهيونية العالمية، والشيوعية وأهل الحداثة ، وأهل الفجور يختلفون، لكنهم في حرب المسلمين يتفقون، أما أهل الإسلام فمتفرقون على أساليب وأطروحات وحقد دفين، وغيبة في الأعراض.
حرمة المسلم
جاء في الأثر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى بيت الله الذي بناه إبراهيم، ثم قال: {ما أعظمك! وما أجلك! والذي نفسي بيده للمسلم أعظم حرمة عند الله منك }.
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام لنا ولكم، ولمن سلك طريق الإسلام: {المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه }.
يا أيها الذي جلس في المجلس ليغتاب عباد الله المؤمنين! يا أيها الذي انتهك حرمات العابدين المتوجهين! أما تعرف أنك تحارب الدين الإسلامي؟! أما تعرف أنك تقوم بحرب شعواء ضد الرسالة الخالدة؟! اتق الله في نفسك.. اتق الله في مصيرك.. وتذكر أننا أمة واحدة، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] فأكبر صفات المؤمنين أنهم إخوة..
إن كيد مُطَّرف الإخاء فإننا نسري ونغدو في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمامٍ واحـد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
إن الذين يسعون إلى الفرقة بدعوتهم وأساليبهم وحقدهم، إنهم يحاربون الرسالة الخالدة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم.. عجيب كيف يتحد الباطل صفاً في حربنا، ونحن شيع وأحزاب ومجالس وأساليب لا نتحد ولا نتفق ولا نتآخى؟! إنهـا قاصمـة الظهر!!
حتى الجهاد الأفغاني، جهاد المجاهدين الأفغان وهم على الجبهات يلتحفون السماء ويفترشون الغبراء، لا يجدون كسرة الخبز، سلَّموا لله دماءهم وأموالهم وأطفالهم.. وهدمت بيوتهم وقعقعت مساجدهم، ودكدكت مآويهم، ثم يدخل فيهم من يفرق الكلمة، وينظر أنه هو المصيب وأن غيره المخطئ.. فلسطين يقوم الأطفال والنساء بالحجارة الصغيرة يدافعون بها الدبابات والطائرات والقنابل، ومع ذلك يجلس بعض الناس على الكنبات والمأكولات والمشروبات والفلل والسيارات، ولا هم له إلا أن يغتاب عباد الله: أقول لهؤلاء:
أقـلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
إن كنتم لا تستطيعون أن تخدموا الرسالة الخالدة، وأن تدفعوا العدو المارد، فنسألكم بالله أن تكفوا ألسنتكم عن عباد الله.
البغضاء -يا عباد الله- شتتت الأسر في مجتمعاتنا، فقد وجد أن من الأرحام من يحقد على رحمه، ومن يتعرض له، ويكيد له المكائد، ولذلك قست القلوب، وجفت العيون، وانقطعت البركة في الأرزاق بذنوبنا وخطايانا.. {والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم }
معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـعمر حين استأذنه للعمرة -كما عند الترمذي - يقول عليه الصلاة والسلام وهو يعانقه ويودعه: {لا تنسنا من دعائك يا أُخي. قال عمر : كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها } وجد من الناس ممن نصب نفسه داعية أو منظراً أو مفيداً من له مواصفات مع الناس؛ يبتسم لهذا ولا يبتسم لذاك، ويهش لهذا ولا يهش لذاك، وليعلم الذي يخسر الناس أنه إنما خسر نفسه؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {تبسمك في وجه أخيك صدقة } ويقول: {ولو أن تلق أخاك بوجه طلِق أو طلْق أو طليق } ويقول جرير رضي الله عنه: {والله ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي }.
فيا عباد الله! الله الله في حقوق المسلمين.. الله الله في أعراض المسلمين.. الله الله في دماء المسلمين.. إن الله سوف يسألكم يوم العرض الأكبر.. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
من حقوق المسلم
واعلموا أن للمسلم على المسلم حقوقاً كثيرة، نذكر بعضها.......
نصيحته إذا استنصحك
فمن حقوق المسلم: أن تنصح له فإذا أتاك في قضية، أو شاورك في أمر؛ فأخرج الغل والغش من نفسك، واجعله مكانك، وأحب له ما تحب لنفسك، ودله على ما ترى أنه الصواب؛ لأن من الناس من هو خائن، فإذا استنصحه أخوه أودى به في داهية؛ لأنه يريد به النكاية والنكال في الدنيا والآخرة.
تشميته وإجابة دعوته
ومن حقوق المسلم: أن إذا عطس فحمد الله فشمته.. وهي سهلة عندنا في المنظور، لكنها كبيرة في الواقع.
ومن حقوق المسلم: أن إذا دعاك فأجبه، إلا أن ترى أمراً منكراً، ودعوة المسلم ليست بالسهلة، وبعض الناس لا يجيب إلا طائفة من الناس لكبر نفسه فلا يجيب إلا طائفة الأغنياء والمترفين والسادة، أما المساكين والفقراء والمحرومون فيجد خجلاً أن يذهب إلى بيوتهم، سبحان الله! أأنت أكرم أم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟! يقول صلى الله عليه وسلم: {لو أهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت }.
تدعوه العجوز على كسرة خبز، فيذهب فيجلس على حصير ويأكل معها، وهو أشرف من طرق الإنسانية وهدى البشرية، ودكدك كيان الوثنية.
توقفه امرأة مسنة في حرارة الشمس فيقف معها حتى تنصرف هي، وتأتي الجارية فتأخذ بيده فيذهب معها فتريه حدثاً في السوق، ولعلها عناق ماتت، وهو حدث سهل لكنه حدث كبير عند الطفلة، فيبتسم معها ويعيش مشاعرها، ويموت طائر لأحد أطفال المدينة ، فيذهب يواسيه في البيت.. سبحان الله! يقول الله له: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فإذا دعاك المسلم فأجبه؛ لأنك تجبر الكسر الذي في قلبه، فما أحسن أن يراك أجبت دعوته، وأكرمته بالحضور، وأريته نفسك في بيته!
إلقاء السلام عليه
ومن حقوق المسلم على المسلم: أن إذا لقيته فسلم عليه ومعنى السلام أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإذا قلت له ذلك فكأنك أعطيته عهداً ألا تحاربه، وألا تحمل الضغينة عليه، وألا ترصد له المراصد.. ومن الناس من لا يسلم إلا على المعرفة، وهذا من علامات الساعة، ونمر بالأسواق وعلى مجامع الناس وبقالاتهم ودكاكينهم فلا نسلم إلا على من نعرف، وهذا نقص في مفهوم الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام لما سئل: {أي الإسلام خير؟ قال: أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف } ويوم أن نسلم على بعضنا يزيل الله الضغينة من القلوب ويخرج الأضغان.
عيادة المريض واتباع الميت
ومن حقوق المسلم: أن إذا مرض فعده، وفي الحديث: {من عاد مريضاً مسلماً شيع بسبعين ألف ملك } وجاء عند الإمام مسلم : {من عاد مسلماً كان في خرفة الجنة حتى يعود إلى بيته } سبحان الله! يمرض أخوك المسلم ثم لاتعوده!
وقد أصبحت عيادة المرضى على أوسمة الدنيا ومقامات الدنيا، وبعض الناس لا يعاد إلا رياءً وسمعة، فلا يكتب الله الأجر لمن عاده ويمرض الفقير بجانبك فلا تعوده، ويمرض طفل جارك فلا تنظر إليه ولا تسأل عنه، لكن إذا مرض سيد من سادات الدنيا، فتذهب وتعتذر وتخدمه من أجل الدنيا، سبحان الله! إن ما عند الله خير.
ومن حقوق المسلم: إذا مات أن تتبع جنازته فإن المسلم محتاج إلى أخيه المسلم في الحياة الدنيا بعد الموت؛ محتاج إلى دعائه، وما أحسن أن تقف على جنازته فتدعو له.. {ما دعا أربعون مسلماً لا يشركون بالله شيئاً لمسلم إلا شفعهم الله فيه } فإذا وقفت على جنازته فأخلص الدعاء له.
يقول عقبة بن عامر : { كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فاقتربت منه حتى مست ثيابي ثيابه، ثم سمعته يدعو للجنازة -انظر إلى الدعاء الحار الصادق، انظر إلى الدعاء الذي ينبعث من القلب، في أعظم مصرع يصرعه الإنسان، وهل تُعَلَمُ كارثة في الحياة أكبر من أن يلف المرء في الأكفان، ويطرح أمام الناس ميتاً؟!- قال: فسمعته يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراًَ من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، قال عقبة : فوددت والله أني أنا الميت }.
قال ابن مسعود : {أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي البجادين ، فأنزله قبره، فلما وضع التراب تحت رأسه قال: اللهم إني أمسيت عنه راض فارض عنه }.
من حق المسلم العفو عنه
ومن حقوق المسلم: أن تعفو عنه، خاصة إذا طرح أمامك في صلاة الجنازة، فكل ما أخذ من حقك، تقول: عفا الله عنه، سامحه الله، انتهك عرضك أو سبك أو شتمك في الحياة، فتعفو عنه؛ لتلقى الله وأنت مرحومٌ، فإنه من يرحم الناس يرحمه الله عز وجل.